سورة العنكبوت
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية رقم (1 : 4)
{ الم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون }
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} "أخرج ابن أبي حاتم: أن {آلم أحسب ...} نزلت في أناس كانوا بمكة، أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب الرسول عليه السلام بالمدينة أن لا يقبل منهم حتى يهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فردهم المشركون، وأخرج ابن سعد: أنها نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في اللّه، كما في اللباب استفهام إنكار، ومعناه أن اللّه سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين، بحسب ما عندهم من الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح، (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء) وهذه الآية كقوله: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم اللّه الذين منكم ويعلم الصابرين}، وقال في البقرة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اللّه ألا إن نصر اللّه قريب}، ولهذا قال ههنا: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن اللّه الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان، ممن هو كاذب في قوله ودعواه، واللّه سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن كيف يكون وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة، وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: {إلا لنعلم} إلا لنرى، وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود والعلم أعم من الرؤية فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود، وقوله تعالى: {أم حسب الذين يعلون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان، فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم، ولهذا قال: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} أي يفوتونا {ساء يحكمون} أي بئس ما يظنون.
الآية رقم (5 : 7)
{ من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم . ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين . والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون }
يقول تعالى: {من كان يرجو لقاء اللّه} أي الدار الآخرة وعمل الصالحات، ورجا ما عند اللّه من الثواب الجزيل، فإن اللّه سيحقق له رجاءه، ويوفيه عمله كاملاً موفراً، فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء، بصير بكل الكائنات. ولهذا قال تعالى: {من كان يرجو لقاء اللّه فإن أجل اللّه لآت وهو السميع العليم}، وقوله تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه}، كقوله تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه} أي من عمل صالحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن اللّه تعالى غني عن العباد ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم، ولهذا قال تعالى: {إن اللّه لغني عن العالمين}. قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من الدهر بسيف، ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم، ومع بره وإحسانه بهم، يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء، وهو أنه يكفَّر عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون، فيقبل القليل من الحسنات ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح، كما قال تعالى: {إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً}، وقال ههنا: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون}.
الآية رقم (8 : 9)
{ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون . والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين }
يقول تعالى آمراً عباده بالإحسان إلى الوالدين، بعد الحث على التمسك بتوحيده، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق، ولهذا قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً}، ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما المتقدم، قال {وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} أي وإن حرصا أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فلا تطعهما في ذلك فإن مرجعكم إليّ يوم القيامة، فأجزيك بإحسانك إليهما وصبرك على دينك، وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك، ولهذا قال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين}. عن مصعب بن سعد يحدث عن أبيه سعد قال: نزلت فيَّ أربع آيات فذكر قصته، وقال، قالت أم سعد: أليس اللّه قد أمرك بالبر؟ واللّه لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فتحوا فمها فاها، فنزلت: {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً، وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} "أخرجه الترمذي في باب التفسير في قصة سعد بن أبي وقاص مع أمه، ورواه أيضاً مسلم والإمام أحمد وأبو داود والنسائي"الآية.
الآية رقم (10 : 11)
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين . وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين }
يقول تعالى مخبراً عن صفات المكذبين، الذين يدعون الإيمان بألسنتم ولم يثبت الإيمان في قلوبهم، بأنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا، اعتقدوا أن هذا من نقمة اللّه تعالى بهم فأرتدوا عن الإسلام، ولهذا قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا باللّه فإذا أوذي في اللّه جعل فتنة الناس كعذاب اللّه} قال ابن عباس: يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في اللّه، وكذا قال غيره من علماء السلف، وهذه الآية كقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد اللّه على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه - إلى قوله - ذلك هو الضلال البعيد}، ثم قال عزَّ وجلَّ: {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} أي ولئن جاء نصر قريب من ربك يا محمد وفتح ومغانم، ليقولن هؤلاء لكم إنا كنا معكم أي إخوانكم في الدين، كما قال تعالى: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من اللّه قالوا ألم نكن معكم} الآية،وقوله تعالىمخبراً عنهم ههنا: {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم}، ثم قال اللّه تعالى: {أوليس اللّه بأعلم في صدور العالمين} أي أوليس اللّه بأعلم بما في قلوبهم، وما تكنه ضمائرهم، وإن أظهروا لكم الموافقة؟ وقوله تعالى: {وليعلمن اللّه الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} أي وليختبرن اللّه الناس بالضراء والسراء، ليتميز من يطيع اللّه في الضراء والسراء، ومن يطيعه في حظ نفسه، كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخبارهم}.
الآية رقم (12 : 13)
{ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون . وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون }
يقول تعالى مخبراً عن كفار قريش أنهم قالوا لمن آمن منهم واتبع الهدى: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا واتبعوا سبيلنا {ولنحمل خطاياكم} أي آثامكم إن كانت لكم آثام، كما يقول القائل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي، قال اللّه تعالى تكذيباً لهم: {وما هم بحاملين من خطاياكم من شيء إنهم لكاذبون} أي فيما قالوه إنهم يحتملون عن أولئك خطاياهم. فإنه لا يحمل أحد وزر أحد. قال اللّه تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى}، وقال تعالى: {ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم}، وقوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} أخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة، أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزاراً أخر، بسبب ما أضلوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئاً كما قال تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} الآية، وفي الصحيح: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً)، وفي الصحيح: (ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل). وقوله تعالى: {وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} أي يكذبون ويختلفون من البهتان.
وفي الحديث: (إياكم والظلم فإن اللّه يعزم يوم القيامة فيقول: وعزتي وجلالي لا يجوزني اليوم
ظلم ثم ينادي مناد فيقول: أين فلان بن فلان؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال، فيشخص الناس أبصارهم، حتى يقوم بين يدي الرحمن عزَّ وجلَّ، ثم يأمر المنادي من كانت له تباعه أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلم، فيقبلون حتى يجتمعوا قياماً بين يدي الرحمن، فيقول الرحمن: اقضوا عن عبدي، فيقولون: كيف نقضي عنه؟ فيقول: خذوا لهم من حسناته فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة، وقد بقي من أصحاب الظلامات، فيقول: اقضوا عن عبدي، فيقولون: لم يبق له حسنة. فيقول: خذوا من سيئاتهم فاحملواها عليه) ثم نزع صلى اللّه عليه وسلم بهذه الآية الكريمة: {وليحملن أثقالهم مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون}
"أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة مرفوعاً"وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه: (إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، وقد ظلم هذا وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فطرح عليه).
الآية رقم (14 : 15)
{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما أخذهم الطوفان وهم ظالمون . فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين }
هذه تسلية من اللّه تعالى لعبده ورسوله صلى اللّه عليه وسلم، يخبره عن نوح عليه السلام أنه مكث في قومه هذه المدة، يدعوهم إلى اللّه تعالى ليلاً ونهاراً وسرأً وجهاراً، ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فرارأً، وما آمن معه منهم إلا قليل، ولهذا قال تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} أي بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار، فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك ولا تحزن عليهم، فإن اللّه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وبيده الأمر وإليه ترجع الأمور واعلم أن اللّه سيظهرك وينصرك ويؤيدك، ويذل عدوك ويكبتهم ويجعلهم أسفل السافلين. عن ابن عباس قال: بعث نوح وهو لأربعين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين عاماً حتى كثر الناس وفشوا، وقوله تعالى: {فأنجينا وأصحاب السفينة} أي الذين أمنوا بنوح عليه السلام، وقد تقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته، وقوله تعالى: {وجعلناها آية للعالمين} أي وجعلنا تلك السفينة باقية، إما عينها - كما قال قتادة - إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان، كما قال تعالى: {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون}، وقال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية}، وقال ههنا: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين}.
الآية رقم (16 : 18)
{ وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون . وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين }
يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء، أنه دعا قومه إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، والإخلاص له في التقوى، وطلب الرزق منه وحده لا شريك له، وتوحيد في الشكر فإنه المشكور على النعم لا مُسْدِي لها غيره، فقال لقومه: {اعبدوا اللّه واتقوه} أي أخلصوا له العبادة والخوف {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع، وإنما هي مخلوقة مثلكم، قال ابن عباس: {وتخلفون إفكاً} أي تنحونها أصناماً وبه قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير وهو الأظهر ، وهي لا تملك لكم رزقاً {فاتبغوا عند اللّه الرزق}، وهذا أبلغ في الحصر، كقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين}، ولهذا قال: {فابتغوا} أي فاطلبوا {عند اللّه الرزق} أي لا عند غيره فإن غيره لا يملك شيئاً، {واعبدوا واشكروا له} أي كلوا من رزقه واعبدوا وحده واشكروا له على ما أنعم به عليكم، {إليه ترجعون} أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله. وقوله تعالى: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم} أي فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} يعني إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره اللّه تعالى به من الرسالة، واللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء، قال قتادة في قوله: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم}، قال: يعزي نبيه صلى اللّه عليه وسلم، والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل عليه السلام، يحتج عليهم لإثبات المعاد لقوله بعد هذا كله {فما كان جواب قومه} واللّه أعلم.
الآية رقم (19 : 23)
{ أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير . قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير . يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون . وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم }
يقول تعالى مخبراً عن الخليل عليه السلام، أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق اللّه إياهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، ثم وجدوا وصاروا أناساً سامعين مبصرين، فالذي بدأ هذا قادر على إعادته، فإنه سهل عليه يسير لديه، ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق اللّه الأشياء: السماوات وما فيها من الكواكب المنيرة، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال، وأودية وبراري وقفار، وأشجار وأنهار، وثمار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار، الذي يقول للشيء كن فيكون، ولهذا قال: {أولم يروا كيف يبدئ اللّه الخلق ثم يعيده إن ذلك على اللّه يسير}، كقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}، ثم قال تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم اللّه ينشيء النشأة الآخرة} أي يوم القيامة، {إن اللّه على كل شيء قدير}، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم
أنه الحق}
، وكقوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟ * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون}، وقوله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله الخلق والأمر لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما جاء في الحديث: (إن اللّه لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم) "أخرجه أصحاب السنن"، ولهذا قال تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقبلون} أي ترجعون يوم القيامة، وقوله تعالى: {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} أي لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه، بل هو القاهر فوق عباده، فكل شيء خائف منه فقير إليه وهو الغني عما سواه {وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير * والذين كفروا بآيات اللّه ولقائه} أي جحدوها وكفروا بالمعاد، {أولئك يئسوا من رحمتي} أي لا نصيب لهم فيها، {وأولئك لهم عذاب أليم} أي موجع شديد في الدنيا والآخرة.
الآية رقم (24 : 25)
{ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين }
يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم، ودفعهم الحق بالباطل، إنهم ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان {إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه}، وذلك لأنهم قام عليهم البرهان وتوجهت عليهم الحجة، فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم، {فقالوا ابنوا بنياناً فالقوه في الجحيم} وذلك أنهم حشدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة، ثم أضرموا فيها النار، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق، ثم قذفوه فجعلها اللّه عليه برداً وسلاماً، وخرج منها سالماً بعدما مكث فيها أياماً، ولهذا وأمثاله جعله اللّه للناس إماماً، فإنه بذل نفسه للرحمن، وجسده للنيران، ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان، وقوله تعالى: {فأنجاه اللّه من النار} أي سلمه منها بأن جعلها عليه برداً وسلاماً، {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون * وقال إنما اتخذتم من دون اللّه أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا}، يقول لقومه مقرعاً لهم وموبخاً على سوء صنيعهم في عبادتهم الأوثان، إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عباداتها في الدنيا صداقة وألفة منكم {ثم يوم القيامة} ينعكس هذا الحال فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضاً وشنآناً، ثم {يكفر بعضكم ببعض} أي تتجاحدون ما كان بينكم، {ويلعن بعضكم بعضا} أي يلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع، {كلما دخلت أمة لعنت أختها}، وقال ههنا:{ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار} الآية، أي مصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلى النار، وما لكم من ناصر ينصركم، ولا منفذ ينقذكم من عذاب اللّه.
الآية رقم (26 : 27)
{ فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم . ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين }
يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه آمن له {لوط} يقال: إنه ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن آزر، وهاجر معه إلى بلاد الشام، ثم أرسل في حياة الخليل إلى أهل سدوم وإقليمها، وكان من أمرهم ما تقدم وما سيأتي، وقوله تعالى: {وقال إني مهاجر إلى ربي} يحتمل عود الضمير في قوله: {وقال} على لوط لأنه هو أقرب المذكورين، ويحتمل عوده إلى إبراهيم وهو المكنى عنه بقوله: {فآمن له لوط} أي من قومه، ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم، ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك، ولهذا قال: {إنه هو العزيز الحكيم} أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين به {الحكيم} في أقواله وأفعاله، وقال قتادة: هاجرا جميعاً من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى الشام، وروى الإمام أحمد عن قتادة عن شهر بن حوشب قال: لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية قدمت الشام، فأخبرت بمقام يقومه نوف البكالي فجئته إذ جاء رجل، فانتبذ الناس وعليه خميصة، فإذا هو عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فلما رآه نوف أمسك عن الحديث، فقال عبد اللّه: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (إنها ستكون هجرة بعد هجرة فينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها، فتلفظهم أرضهم تقذرهم نفس الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، فتبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا، وتأكل من تخلف منهم). قال: وسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج منهم قرن قطع، كلما خرج قرن قطع - حتى عدها زيادة على عشرين مرة - حتى يخرج الدجال في بقيتهم) "أخرجه الإمام أحمد، ورواه أبو داود في سننه في كتاب الجهاد".
وقوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب}، كقوله: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون اللّه، وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً} أي لما فارق قومه أقر اللّه عينه بوجود ولد صالح نبي وولد
له ولد صالح نبي في حياة جده، وكذلك قال تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة} أي زيادة، كما قال تعالى: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} أي يولد لهذا الولد ولد في حياتكما تقر به أعينكما، فأما ما روي عن ابن عباس في قوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} قال: هما ولدا إبراهيم، فمعناه أن ولد الولد بمنزلة الولد، فإن هذا الأمر لا يكاد يخفى على من هو دون ابن عباس، وقوله تعالى: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} هذه خلعة سنية عظيمة مع اتخاذ اللّه إياه خليلاً وجعله للناس إماماً أن جعل في ذريته النبوة والكتاب، فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم حتى كان آخرهم عيسى بن مريم، فقام مبشرأً بالنبي العربي سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، الذي اصطفاه اللّه من صميم العرب العرباء، من سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه عليه أفضل الصلاة والسلام، وقوله: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أي جمع اللّه له بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة، فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهني والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الحسنة الصالحة، والثناء الجميل، والذكر الحسن وكل أحد يحبه ويتولاه، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم مع القيام بطاعة اللّه من جميع الوجوه، كما قال تعالى: {وإبراهيم الذي وفَى} أي قام بجميع ما أمر به وكمل طاعة ربه، ولهذا قال تعالى: {وآتينا أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}، وكما قال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتأً للّه حنيفاً ولم يك من المشركين - إلى قوله - وإنه في الآخرة لمن الصالحين }
الآية رقم (28 : 30)
{ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين . أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين . قال رب انصرني على القوم المفسدين }
يقول تعالى مخبراً عن نبيه لوط عليه السلام أنه أنكر على قومه سوء صنيعهم، وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال، في إتباعهم الذكران من العالمين، ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من نبي آدم قبلهم، وكانوا مع هذا يكفرون باللّه ويكذبون رسوله ويخالفونه ويقطعون السبيل، أي يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم، {وتأتون في ناديكم المنكر} أي يفعلون ما لا يليق من الأقوال في مجالسهم التي يجتمعون فيها، لا ينكر بعضهم على بعض شيئاً من ذلك، فمن قائل: كانوا يأتون بعضهم في الملأ قاله مجاهد، ومن قائل: كانوا يتضارطون ويتضاحكون، روى الإمام أحمد عن أحمد عن أم هانئ قالت: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى {وتأتون في ناديهم المنكر} قال: (يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه) "أخرجه أحمد ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم". وعن مجاهد {وتأتون في ناديهم المنكر} قال: الصفير ولعب الحمام وحل أزرار القباء، وقوله تعالى: {فما كان جواب قومه إلا أن قال ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} وهذا من كفرهم واستهزئهم وعنادهم، ولهذا استنصر عليهم نبي اللّه فقال: {رب انصرني على القوم المفسدين}.
الآية رقم (31 : 35)
{ ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين . قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين . ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين . إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون . ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون }
لما استنصر لوط عليه السلام باللّه عزَّ وجلَّ عليهم بعث اللّه لنصرته ملائكة، فمروا على إبراهيم ، عليه السلام في هيئة أضياف، فجاءتهم بما ينبغي للضيف، فلما رأى إبراهيم أنه لا همة لهم إلى الطعام نكرهم، وأوجس منهم خيفة، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بوجود ولد صالح
من امرأته سارة، وكانت حاضرة فتعجبت من ذلك، كما تقدم بيانه في سورة هود والحجر، فلما جاءت إبراهيم بالبشرى وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط أخذ يدافع لعلهم ينظرون، لعل اللّه أن يهديهم، ولما قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية {قال إن فيها لوطاً، قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} أي من الهالكين لأنها كانت تمالئهم على كفرهم وبغيهم، ثم ساروا من عنده فدخلوا على لوط في صورة شبان حسان، فلما رآهم كذلك {سيء بهم وضاق بهم ذرعاً} أي اغتم بأمرهم إن هو أضافهم خاف عليهم من قومه، وإن لم يضفهم خشي عليهم منهم، ولم يعلم بامرهم إلاّ في الساعة الراهنة {قالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون}، وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض ثم قلبها عليهم، وأرسل اللّه عليهم حجارة من سجيل منضود، وجعل اللّه مكانها بحيرة خبيثة منتنة، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد، وهم من أشد الناس عذاباً يوم المعاد، ولهذا قال تعالى: {ولقد تركنا منها آية بينة} أي واضحة {لقوم يعقلون}، كما قال تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون}؟
الآية رقم (36 : 37)
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين . فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } يخبر تعالى عن عبده ورسوله شعيب عليه السلام أنه أنذر قومه أهل مدين فأمرهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له، وأن يخافوا بأس اللّه ونقمته وسطوته يوم القيامة، فقال: {يا قوم اعبدوا اللّه وارجوا اليوم الآخر} قال ابن جرير: معناه واخشوا اليوم الآخر، كقوله تعالى: {لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر}، وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد، وهو السعي فيها والبغي على أهلها، وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويقطعون الطريق على الناس، هذا مع كفرهم باللّه ورسوله، فأهلكهم اللّه برجفة عظيمة زلزلت عليهم بلادهم، وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها، وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها إنه كان عذاب يوم عظيم، وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف وهود والشعراء، وقوله: {فأصبحوا في دارهم جاثمين} قال قتادة: ميتين، وقال غيره: قد ألقي بعضهم
على بعض.
الآية رقم (38 : 40)
{ وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين . وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين . فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }
يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم، وأخذهم بالانتقام منهم، فعاد قوم هود عليه السلام كانوا يسكنون الأحقاف وهي قريبة من حضرموت بلاد اليمن، وثمود قوم صالح كانوا يسكنون الحجر قريباً من وادي القرى، وكانت العرب تعرف مساكنهما جيداً وتمر عليها كثيراً، وقارون صاحب الأموال الجزيلة والكنوز الثقيلة، وفرعون ووزيره هامان القبطيان الكافرون باللّه تعالى وبرسوله صلى اللّه عليه وسلم {فكلأ أخذنا بذنبه} أي كانت عقوبته بما يناسبه {فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} وهم عاد، وذلك أنهم قالوا من أشد منا قوة؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد، عاتية شديدة الهبوب، تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم، وتقتلعهم من الأرض، فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى بدناً بلا رأس كأنهم أعجاز نخل منقعر، {ومنهم من أخذته الصيحة} وهم ثمود قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة على تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة مثل ما سألوا سواء بسواء، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم وتهددوا نبي اللّه صالحاً ومن آمن معه، وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات، {ومنهم من خسفنا به الأرض} وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا وعصى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحاً واعتقد أنه أفضل من غيره، واختال في مشيته، فخسف اللّه به وبداره الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، {ومنهم من أغرقنا} وهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عن آخرهم أغرقوا في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر، {وما كان اللّه ليظلمهم} أي فيما فعل بهم، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقاً بما كسبت أيديهم.
الآية رقم (41 : 43)
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون . إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم . وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون }
هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون اللّه، يرجون نصرهم ورزقهم ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه، فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت، فإنه لا يجدي عنه شيئاً، فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون اللّه أولياء، وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه للّه، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع، فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها، ثم قال تعالى متوعداً لمن عبد غيره وأشرك به: إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ويعلم ما يشركون به من الأنداد وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم، ثم قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} أي وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه: عن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب اللّه لا أعرفها إلا أحزنني لأني سمعت اللّه تعالى يقول: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} "أخرجه ابن أبي حاتم".
الآية رقم (44 : 45)
{ خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين . اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون }
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه خلق السماوات والأرض بالحق، يعني لا على وجه العبث واللعب {لتجزى كل نفس بما تسعى}، {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}، وقوله: تعالى: {إن في ذلك لآية للمؤمنين} أي لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية، ثم قال تعالى آمراً رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن وهو قراءته وإبلاغه للناس، {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفشحاء والمنكر ولذكر اللّه أكبر} يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين على ترك الفواحش والمنكرات، أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك، وقد جاء في الحديث عن ابن عباس مرفوعاً: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من اللّه إلا بعداً).
ذكر الآثار الواردة في ذلك
روى ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه {إن الصلاة تنهى عن الفشحاء والمنكر}؟ قال: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له)، وعن ابن عباس، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من اللّه إلا بعداً) "أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الطبراني بنحوه". وروى الحافظ أبو بكر البزار قال، قال رجل للنبي صلى اللّه عليه وسلم: إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، قال: (إنه سينهاه ما تقول) "أخرجه البزار والإمام أحمد في مسنده"، وتشتمل الصلاة أيضاً على ذكر اللّه تعالى وهو المطلوب الأكبر، ولهذا قال تعالى: {ولذكر اللّه أكبر} أي أعظم من الأول {واللّه يعلم ما تصنعون} أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم، وقال أبو العالية: إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر اللّه، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر اللّه القرآن يأمره وينهاه، وقال ابن عون الأنصاري: إذا كنت في صلاة فأنت في معروف وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر والذي أنت فيه من ذكر اللّه أكبر، وعن ابن عباس في قوله تعالى {ولذكر اللّه أكبر} يقول: ولذكر اللّه لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه وهو قول مجاهد وبه قال غير واحد من السلف . وعنه أيضاً قال: لها وجهان: ذكر اللّه عندما حرمه، قال: وذكر اللّه إياكم أعظم من ذكرهم إياه، وعن عبد اللّه بن ربيعة قال، قال لي ابن عباس: هل تدري ما قوله تعالى: {ولذكر اللّه أكبر}؟ قال، قلت: نعم، قال: فما هو؟ قلت: التسبيح والتحميد والتكلبير في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك، قال: لقد قلت قولا عجيباً وما هو كذلك، ولكنه إنما يقول: ذكر اللّه إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إياه، وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس، واختاره ابن جرير.
الآية رقم (46)
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }
قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف، وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} الآية. وهذا القول اختاره ابن جرير، وقوله تعالى: {إلا الذين ظلموا منهم} أي حادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح المحجة، وعاندوا وكابروا، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد، ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم، قال جابر: أمرنا من خالف كتاب اللّه أن نضربه بالسيف، قال مجاهد: {إلا الذين ظلموا منهم} يعني أهل الحرب ومن امتنع منهم من أداء الجزية، وقوله تعالى: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقاً ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلاً، ولكن نؤمن به إيماناً مجملاً، أخرج البخاري رحمه اللّه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}. وروى ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال، وروى البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحدث، تقرأونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا واللّه ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم. وحدّث معاوية رهطاً من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار، فقال: إن من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب "أخرجه البخاري موقوفاً على معاوية بن أبي سفيان رضي اللّه عنه قال ابن كثير: معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد، لأنه يحدث عن صحف هو يحسن الظن فيها وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة".
الآية رقم (47 : 49)
{ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون . وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون . بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون }
يقول اللّه تعالى كما أنزلنا الكتب على من قبلك يا محمد من الرسل، كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب، وقوله تعالى: {فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به} أي الذين أخذوه فتلوه حق تلاوته، من أخبارهم العلماء الأذكياء كـ عبد اللّه بن سلام و سلمان الفارسي وأشباههما، وقوله تعالى: {ومن هؤلاء من يؤمن به} يعني العرب من قريش وغيرهم، {وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون} أي ما يكذب بها ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل، ثم قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمنك} أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمراً لا تقرأ كتاباً ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا صفته في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {والذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} الآية، وهكذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده، بل كان له كتّاب يكتبون بين يده الوحي والرسائل إلى الأقاليم، وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صلى اللّه علية وسلم حتى تعلم الكتابة فضعيف لا أصل له، قال اللّه تعالى: {وما كنت تتلو} أي تقرأ {من قبله من كتاب} لتأكيد النفي {ولا تخطه بيمينك} تأكيد أيضاً وخرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه}.
وقوله تعالى: {إذاً لارتاب المبطلون} أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس، فيقول: إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء، وقد قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة، {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا}، قال اللّه تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض} الآية، وقال ههنا {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، يحفظه العلماء، يسره اللّه عليهم حفظاً وتلاوة وتفسيراً، كما قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه اللّه إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً)، وفي صحيح مسلم يقول اللّه تعالى: {إني مبتليك ومبتل بك، ومنزلٌ عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً}، أي لأنه محفوظ في الصدور، ميسر على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظاً ومعنى، ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة {أناجيلهم في صدورهم ، وقوله تعالى: {وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} أي ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها {إلا الظالمون} أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}.
الآية رقم (50 : 52)
{ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين . أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون . قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون }
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعنتهم، وطلبهم آيات يعنون ترشدهم إلى أن محمداً رسول اللّه، كما أتى صالح بناقته، قال تعالى: {قل} يا محمد {إنما الآيات عند اللّه} أي إنما أمر ذلك إلى اللّه، فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم، لأن هذا سهل عليه يسير لديه، ولكنه يعلم منكم أنكم إنما قضدتم التعنت والامتحان، فلا يجيبكم إلى ذلك، كما قال تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون * وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها}، وقوله: {وإنما أنا نذير مبين} أي إنما بعثت نذيراً لكم فعليّ أن أبلغكم رسالة اللّه تعالى، و {من يهد اللّه فهو المهتد}، ثم قال تعالى مبيناً كثرة جهلهم وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم فيما جاءهم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة سورة منه، فقال تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} "أخرجه ابن جرير وغيره قال: جاء أناس من المسلمين بكتب كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم، إلى ما جاء به غيره) فنزلت { أولم يكفهم ...} أي أولم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم ونبأ ما بعدهم وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحداً من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه، وبالحق الواضح البين الجلي، كما قال تعالى: {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل}، وقال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} وفي الصحيح عنه صلى اللّه عليه وسلم: {ما من الأنبياء من بني إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه اللّه إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) "أخرجه الشيخان والإمام أحمد". وقد قال تعالى: {إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} أي إن في هذا القرآن {لرحمة} أي بياناً للحق وإزاحة للباطل {وذكرى} بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون، ثم قال تعالى: {قل كفى باللّه بيني وبينكم شهيداً} أي هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب، ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه بأنه أرسلني، فلو كنت كاذباً عليه لا نتقم مني، كما قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمن ثم قطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين}، وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به، ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات {يعلم ما في السموات والأرض} أي لا تخفى عليه خافية، {والذين آمنوا بالباطل وكفروا باللّه أولئك هم الخاسرون} أي يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا، في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل، كذبوا برسل اللّه مع قيام الأدلة على صدقهم، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل، فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم.
الآية رقم (53 : 55)
{ ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون . يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون }
يقول تعالى مخبراً عن جهل المشركين، في استعجالهم عذاب اللّه أت يقع بهم، وبأس اللّه أن يحل عليهم، كما قال تعالى: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}، وقال ههنا: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب} أي لولا ما ختم اللّه من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريباً سريعاً كما استعجلوه، ثم قال: {وليأتينهم بغتة} أي فجأة، {وهم لا يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطه بالكافرين} أي يستعجلون العذاب وهو واقع بهم لا محالة، ثم قال عزَّ وجلَّ: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم}، كقوله تعالى: {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش}، وقال تعالى: {لهم من فوقهم ظلل ومن تحتهم ظلل}، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم وهذا ابلغ في العذاب الحسي، وقوله تعالى: {ونقول ذوقوا ما كنتم تعملون} تهديد وتقريع وتوبيخ وهذا عذاب معنوي على النفوس، كقوله تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوهم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وقال تعالى: {يوم يدعّون إلى نار جهنم دعّا * هذه النار التي كنتم بها تكذبون}.
الآية رقم (56 : 60)
{ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون . كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون . والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين . الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم }
هذا أمر من اللّه تعالى لعباده المؤمنين، بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض اللّه الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا اللّه ويعبدوه كما أمرهم، ولهذا قال تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدوا}. عن الزبير بن العوام قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (البلاد بلاد اللّه، والعباد عباد اللّه، فحيثما أصبت خيراً فأقم) "أخرجه الإمام أحمد عن الزبير بن العوام"، ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه اللّه تعالى، فآواهم وأيدهم، ثم بعد ذلك هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة المطهرة، ثم قال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون} أي أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة اللّه وحيث أمركم اللّه فهو خير لكم، فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه، ثم إلى اللّه المرجع والمآب، فمن كان مطيعاً له جازاه أفضل الجزاء ووافاه أتم الثواب، ولهذا قال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار} أي لنسكننهم منازل عالية في الجنة، تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها، من ماء وخمر وعسل ولبن، يصرفونها ويجرونها حيث شاءوا، {خالدين فيها} أي ما كثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولا، {نعم أجر العاملين} نعمت هذه الغرف أجراً على أعمال المؤمنين {الذين صبروا} أي على دينهم وهاجروا إلى اللّه، ونابذوا الأعداء، وفارقوا الأهل والأقرباء، ابتغاء وجه اللّه ورجاء ما عنده.
وفي الحديث: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وتابع الصلاة والصيام، وقام بالليل والناس نيام) "أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً"{وعلى ربهم يتوكلون} في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم، ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار، ولهذا قال تعالى: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها} أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد، {واللّه يرزقها وإياكم} أي اللّه يقيّض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء، والحيتان في الماء، قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}، وروى ابن حاتم عن ابن عمر قال: خرجت مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: (يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟) قال، قلت: لا أشتهيه يا رسول اللّه، قال: (لكني أشتهيه وهذا صبح رابعةٍ منذ لم أذق طعاماً، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟) قال فواللّه ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها اللّه يرزقها وإياكم وهو السميع العليم)، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن اللّه عزَّ وجلَّ لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا باتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية، فإن الحياة بيد اللّه، ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد "الحديث أخرجه ابن أبي حاتم وفي إسناده ضعف كذا قال ابن كثير"، وعن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (سافروا تربحوا، وصوموا تصحوا وغزوا تغنموا) "أخرجه الإمام أحمد، "ورواه البيهقي عن ابن عمر مرفوعاً "باللفظ سافروا تصحوا وتغنموا . وقوله: {وهو السميع العليم} أي السميع لأقوال عباده {العليم} بحركاتهم وسكناتهم.
الآية رقم (61 :63)
{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون . الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم . ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون }
يقول تعالى مقرراً أنه لا إلة إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق
لعباده، ومقدر آجالهم وأرزاقهم فتفاوت بينهم، فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلا منهم ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلمَ يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيراً ما يقرر تعالى (مقام الإلهية) بالاعتراف بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
الآية رقم (64 : 66)
{ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون . فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون . ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون }
يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وإنها لا دوام لها وغاية ما فيها لهو ولعب {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} أي الحياة الدائمة، الحق الذي لا زوال له ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد، وقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} أي لآثروا ما يبقى على ما يفنى. ثم أخبر تعالى عن المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، فلا يكون هذا منهم دائماً {فإذا ركبوا في الفلك دعوا اللّه مخلصين له الدين}، كقوله تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} الآية. وقال ههنا: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم هم يشركون}. وقد ذكر محمد ابن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة، ذهب فاراً منها، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا ينجي ههنا إلا هو، فقال عكرمة: واللّه لئن كان لاينجي في البحر غيره فإنه لا ينجي في البر أيضاً غيره، اللهم لك عليَّ عهد لئن خرجت لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤوفاً رحيماً، فكان كذلك. وقوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا} هذه اللام لام العاقبة لأنهم لا يقصدون ذلك ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم، وأما بالنسبة إلى تقدير اللّه عليهم ذلك، وتقييضه إياهم لذلك فهي لام التعليل، وقد قدمنا تقرير ذلك في قوله: {ليكون لهم عدواً وحزناً}.
الآية رقم (67 : 69)
{ أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون . ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين . والذين جاهدوا فينا لنهدينهم وإن الله لمع المحسنين }
يقول تعالى ممتناً على قريش فيما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، ومن دخله كان آمناً، فهو أمن عظيم، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً، كما قال تعالى: {لإيلاف قريش} إلى آخر السورة، وقوله تعالى: {أفبالباطل يؤمنون وبنعمة اللّه يكفرون} في اللباب: أخرج جويبر: أنهم قالوا: يا محمد، ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس، والأعراب أكثر منا، فنزل: {أولم يروا أنا ...} الآية أي أفكأن شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، {بدلوا نعمة اللّه كفراً وأحلوا قومهم دار البوار} فكفروا بنبي اللّه ورسوله فكذبوه، فقاتلوه، فأخرجوه من بين أظهرهم، ولهذا سلبهم اللّه تعالى ما كان أنعم به عليهم، وقتل من قتل منهم ببدر، ثم صارت الدولة للّه ولرسوله وللمؤمنين، ففتح اللّه على رسوله مكة وأرغم آنافهم وأذل رقابهم، ثم قال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على كذباً أو كذب بالحق لما جاءه}؟ أي لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على اللّه، فقال إن اللّه أوحى إليه ولم يوح إليه شيء، وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه، فالأول مفتر والثاني مكذب، ولهذا قال تعالى: {أليس في جهنم مثوى للكافرين}، ثم قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا} يعني الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين {لنهدينهم سبلنا} أي لنبصرنهم سبلنا أي طرقنا في الدنيا والآخرة، وقوله: {وإن اللّه لمع المحسنين}.
روى ابن حاتم بسنده عن الشعبي قال، قال عيسى بن مريم عليه السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، واللّه أعلم.